الوقت يضيق , والساعة تشير إلى اقترابها من التاسعة ليلاً , بينما أعلق في زِحام حَوَليّ , كلما حاولت أن أجد منفذاً لأهرب من تدافع السيارات وأكسب الوقت , أقع في زحمةٍ أخرى أو أصلُ لمنفذٍ مُغلق !
تراودني فكرة العدول عن زيارة عمي المُصاب بقدمه , وأترّقب هاتفي خشيّة ً من أن يتصل أبي ويوبخني على تأخري , ولكن , شيءٌ ما كان يحثني على إتمام الزيارة , والصبر على هذا الاختناق المروري حتى أخرج من منطقة حَوليّ المُزدحمة وأصل إلى اليرموك بسلام !
كُنت مُحرجة من عدم زيارتي له بعد إصابته , كما كنت أخشى أن لا أتمكن من ذلك لأن موعد سفري قريب , وصلت منزله والساعة ُ قد تعدت التاسعة والنصف , إلا أن صديقاً له كان يجلس معه , اضطررت للانتظار والتأخرّ أكثر , راودتني مرة أخرى فكرة الرجوع , وكُدت أكتفي بإيصاءِ ابنته على إيصال السلام له وأصدق التمنيات بسرعة الشفاء , لكن آثرت الانتظار , وشعرتُ برغبةٍ شديدةٍ للقائه ..
لم أكن أدرك بأنه سيكون أجمل لقاءٍ يجمعني به , ولم أكن أدرك كذلك بأنه سيكون لقاءنا الأخير , وربما لهذا السبب كنت أصرّ على إتمامه كلما فكرّت بالرجوع ..
تفصلنا عن العاشرةِ ليلاً بضعُ دقائق , غادر صديقه فنزلتُ للجلوسِ معه , في حُجرة الاستقبال المُلاصقة للحجرةِ التي يرقدُ فيها مُنذ أن أصيب في رجله , رأيتهُ جالساً على المِقعد وقد مد رجله المُصابة َ أمامه , استقبلني بابتسامته التي ما فارقت محيّاه , قبّلتُ رأسه ثم قلتُ مداعِبَة ً إياه :
- سلامات كابتن , ما تشوف شر
: )
فضحك ورحّب بي , سألته عن أحواله وصحته , فكان يجيبُ على كل سؤال ٍ بروح ٍ مرحة , وابتسامةٍ راضية , وإجابةٍ متبوعةٍ بالحمدِ والشكر ..
كان الهدف من زيارتي , أن أمكث خمسة دقائق للسلام والاطمئنان , إلا أن الوقتَ مرَّ سريعاً , والحديثَ قد طال ..
مازلت أذكر بالرغم من مرور سنة على هذا اللقاء أغلب ما تحدّثنا حوله , وقد قال لي بالنصّ :
( يالله , الحمد لله أنها يت على جذي , والمصايب خيره من الله , لو مو متعورة ريولي مايندرى يمكن كان راح يصير فيني شي أكبر من جذي , ويمكن كنت راح اروح مكان او اسوي حادث أو أو ..
والحمد لله الي عطاني الصحة والعافية كل هالسنين , ومتّعني بالمشي والروحة والردة على ريولي , فرصة الحين الواحد يقعد مع نفسه شوي )
وكان مما قد قاله لي :
( الإنسان لازم دايما يكون مستعد , يحط اباله ان ممكن بأي لحظه يخسر أي شي , ماله او صحته أو أحد العزيزين عليه , الله سبحانه يعطي وياخذ بحكمه , وكل شي من عنده خيره )
وقال لي مازحاً :
( أنا بعد عبالي ليلحين شباب , لازم أخفف شوي من الرياضة , الواحد منا ما يبي يقتنع أنه قاعد يكبر )
وكنت في تلك الفترة قد انتهيّت من تقديم دورة صيفيّة للفتيات في منزل جدي , وكانت دورة حول معاني التميّز والتخطيط والأهداف وهذه الأمور , أقمتها للفتيات الصغيرات في العائلة , لمدة شهر , يوميّن في الأسبوع للاستفادة من العطلة الصيفيّة , فقلت له :
- صح كلامك عمي , عشان جذي الواحد لازم يكون عنده شي مسويه بحياته , ما ينطر يكبر , ولا ينطر يحصّل العلم كله , مايدري راح يعيش لي ذاك الوقت وإلا لا , مهما كان هالشي بسيط وصغير , عالأقل يقدر يستفيد منه بآخرته , لازم كل واحد يشوف شنو عنده من امكانات ويبدي يشتغل عليها , اهوه لازم يهيئ لنفسه ظروف العطاء مو ينطرها تتهيئ له
واستمر الحوار بيننا على هذه الوتيرة , وأشاد بالدورة التي أقيمها للفتيات , وعرّض علي أي مساعدة للدورات القادمة , وأضاف المزيد من المعاني واستشهد ببعض الآيات القرآنية التي تدل على قصر عمر الانسان , وبعض الأحاديث التي تحث على العمل لآخر لحظة وفي كل لحظة , حيث أن الإنسان لا يدري متى يموت ومتى تُغلق صحيفته , ثم تحدثنا حول أعمال الخير , وأهميّتها , وضرورة استمرارها وعدم تسويفها , وتحدّثنا عن حقيقة الحياة الدنيا وسرعة فنائها وزوالها ..
إلى أن تأخر الوقت , واضطررت للرحيل دون أن أرغب به لمتعة الحوار الذي دار بيننا ..
خرجت من عنده , وقد قررت أن أجلس معه مثل هذه الجلسات بعد عودتي من السفر , خصوصاً وأن عمي من مُحبي الكُتب ومرتادي دروس العلم , وأصحاب النفوس العظيمة : )
وأنا أحب الحوار مع الذين يتصفون بهذه الصفات , وأجده من أهم عوامل النضوج الفكري والتآخي الروحي ..
خرجت , وقد عزمت على تعميق علاقتي معه , كانت تجمعني به علاقة عائلية , وذكريات طفولية , ومحبة فطرية , ولكن بعد هذا اللقاء أحسست بقربٍ أكثرَ منه , ومحبةٍ أكثر له ..كانت لدي الكثير من الأسئلة التي أود أن أستفسر عنها , والعديد من النقاط التي أود أن أحاورها معه , كنت متأكدة بأنه سيرحب بهذه الجلسات , كيف لا وهو الذي كان يحرّص على تثقيفنا منذ الصغر , كان يجمعنا عندما نزور منزله ويقرأ لنا سير الصحابة , يقيم لنا المسابقات الثقافية , ويعطينا الأشرطة والكتيّبات التي تناسب أعمارنا ..
أيامٌ قلائل , وحان موعد السفر , وبعد أسبوع بالضبط جاءني خبرُ وفاتك ..
كنت قد انتقلت إلى جوار ربك قبل أن أعلم بيوميّن , أبي وأمي حاولا جاهديّن إخفاء الخبر عنا ..
أذكر أنني كنت أسير مع أبي لوحدنا في شوارع باريس بحثاً عن مطعم لشراء الغداء , فشكرته على استمتاعنا بالأمس في يورو ديزني واحكي له بعض المواقف الطريفة , وكان يجيب بصوتٍ متهدجٍ دون أن يلتفت علي ّ – حيث كان يخفي أدمعه - :
-
الواحد شنو عنده اغلى من عياله , لازم يسوي كل شي عشانهم , ما يدري لي متى راح يكون معاهم ..آلمني هذا الرد منه !
وكلما رن هاتفه , كان يبتعد عني ويجيب عليه , ولم أكن أسمع سوى عبارات الشكر , وجزاكَ الله خيراً وكان يحرص على انهاء المكالمة بسرعة ..
ولكن التكنولوجيا لا تدع مجالاً للأسرار , أخبرتنا إحدى القريبات عبر المسنجر بهذا الخبر ..
شعورٌ لا أود تذكره أو وصفه !
وفي اليوم التالي , أذكر جلوسي منفردة ً في بهو الفندق , أُحدّثُ إحدى الصديقات عبر المسنجر وأبكي بحرارة ..
بقي على عودتنا اسبوعيّن , من الصعب أن تجدَ تذاكر عودة لستة أشخاص في نهاية العطلة وقبل رمضان بأيام , كلٌ منا كان يخفي أدمعه عن الآخر , من أصعب الأيام التي عشتها في حياتي ..
أن تكون بعيداً عن أهلك في مُصابك ومُصابهم , أن تحاول إخفاء حزنك عن المقرّبين حتى لا تزيد آلامهم ..
وكانت العودة أصعب !
يـا رب ..
.
.
في هذا اليوم , في العشرين من أغسطس , يُكمل العام أيامه منذ أن رحلت , ككل الأعوام التي تمرُ سريعة , تمرُ دون أن تطبب جراحنا أو تخمد أشواقنا , ولكن قلوبنا الراضية المؤمنة تسلو بالله تعالى وبمناجاته , وسيرتك العطرة ترسمُ الابتسامة على وجوهنا كلما ذكرناك ..
تعلمت منك الكثير يا عمي الحبيب , ومازلت أتعلم منك , كنت قدوة ً صالحة , وشجرة ً مثمرة في بستان عائلتنا ..
مازالت الغرفة التي تتفطر بها كل خميسٍ يوم زيارة الأهل تشهد لصيامك , مازالت مئذنة المسجد القريب من منزلك تشهد لك أذانك للصلاة , مازالوا الصبية الصغار الذين تعلّمهم القرآن يشهدون لك فضلك , مازالت الكتب في مكتبتك تشهد لك علمك ..
مازلتُ يا عمي الحبيب أسمع تلاوتك الخاشعة للقرآن كلما صعدتُ لغرفتك ..
ولا أخفيك , بأنني كنت أتمنى بصدق أن تقرأ كتابي , كنت واثقة بأنك ستفخر به , ستسعد كثيراً, ولكن , إن لم تقرأه أنت , فتأكد بأن كل من سيقرئه , سيدعو لك عند قراءة الإهداء ..
رحمك الله , رحمك الله , رحمك الله
إلى أن نلقاك في جنات الخلد بإذن الله , سنظل نشتاق إليك ..