أقضي هذا الصباح مُنحية َ الظهر أمام مكتبتي
أحمل كتاباً أُخرِجُ آخراً وأمسحُ الغُبار عن غيّره ..
مكتبتي المسكينة , والتي تكدّست الكتب على رفوفها بلا هوادةٍ أو رحمة , وتحمّل كُلُ رفٍ منها كمية ً من الكُتبِ لو قُسمَت على رفيّنِ لاحدوّدبا !
وبينما تمضي الساعات وأنا على حالي , أحملُ وأضع , أمسحُ وأرتب , أصنّف وأتصفّح , إذ بها تقولُ لي بصوتٍ مبحوح , ملؤهُ حكمة ً ووقارا :
يا إيلاف , أنصتي لي واسمعي قولي , فإني لكِ ناصحة ٌ أمينة
فقلت : أعوذ برب الفلق من أبكم ٍ قد نطق , وجمادٍ ما زَفرَ من قبل وما شهق , ماله اليوم يُنادي , أرعب قلبي فخفق !
فقالت : أمني تستعيذين ؟ والله إني لأحق منكِ , بالاستعاذةِ منكِ ومن ثِقَلِ كُتبك !
فقُلت : حسنا حسنا , لا تُكثري الجدالَ والخصام , أدلي بدلوكِ وأفرغي ما لديكِ من الكلام , باختصارٍ ووضوحٍ ومن ثُم فاصمتي وعليكِ السلام .
فقالت : إني كما تريّن , أضيقُ بضيوفك , ولا أتسعُ للمزيد منهم , ولو كان طفلا نحيلا , فأبدليني إن شئتِ بأخرى كبيرة , أو توقفي عن شراء الكتب , أو أودعي الفائض في مكتبة المنزل .
فرمقتها شزرا ثم قلت بتحدٍ : إن شكلك الجميل ولونكِ الهادئ يغويني بالاحتفاظ بك , وطلبكِ بالتوقف عن شراء الكُتب مرفوض , أما بخصوص تحويل الفائض لمكتبة المنزل , فهيّهات هيّهات , كيف يكون ذاك وأنا التي لا تقرّ عيني إلا وكل كتبي ترقد بجانبي .
لم ينتهي قولي, إلا وإذ بدمعةٍ تتدحّرج على أرففها وتصطدم بالأرض ثم تتلاشى كالسراب , وتعود مكتبتي إلى صمتها الأزليّ بعدما خسَرت المعركة
.
.
ما هي إلا دقائق وإذ بصوت الضمير في داخلي يٌناديني , فاستعذت مرة ً أخرى فقال لي :
ويحك يا فتاة , إنما أنا ضميرُكِ الناطقُ دوما ولست بمكتبتك الخرساء .
فقلت : حسنا حسنا , تفضّل يا أكثر من يتحلطم على وجه الأرض !
فقال : إنما مكتبتُكِ شيءٌ حكيم , فهي حاملة الفلاسفة وحاضنة المفكرين وحاوية الأدباء ومُنادِمَةُ البلغاء ومُسامِرَةُ الحُكماء , كفاكِ عجرفة ً ونفسيّة , تفكّري في قولها , تأملي في حالها , وأنصتي لنُصحِها .
فأطرقتُ قليلا , تأملت في الكُتب التي تحيط بي على الأرض من كل جانب , وهذه الكركبة العظيمة التي سببتُها من أجل تعديل المكتبة , ونظرت وإذ مازالت العشرات منها على الأرفف , تفكّرت , تذكّرت , راجعتُ حساباتي وذكرياتي , وإذ بي أصل للتالي :
* علّمتني مكتبتي أن عدد الكتب التي تحتويها ولم أقرأها يفوق بكثير ما كنت أتوقعه !
* علّمتني مكتبتي أنني التي كنت أرى في الروايات مضيّعة للعقل والوقت , قد أسرّفت في قراءتها وشراءها في الفترة الأخيرة , ولكن عزائي الوحيد أن 80% منها روايات تاريخية أو قديمة { تُثري من الناحية البلاغيّة والتاريخية }
* علّمتني مكتبتي أن نقطة ضعفي في شراء الكُتب وجود اسم الأندلس في العنوان , أو صورة زيّتيّة لفتاة من العصور القديمة على الغلاف !
* علّمتني مكتبتي أن هناك كُتب قرأتها ولكنني نسيت حتى عناوينها ! وأنني بحاجة لتصّفحها ومراجعة أهم أفكارها .
* علّمتني مكتبتي أن الكُتب التي قرأتها أثارت في فكري عشرات الأفكار والمقالات ولكنها لم ترى النور , ويجب أن أُريها إياه !
* علّمتني مكتبتي أن ما يُمكن له أن يكون شاهداً للكتاب { بوك مارك } هو كل ما أريد له أن يكون كذلك , وأن أي مكان أزوره أثمن ما أخرج به منه هو شاهد الكتاب ^_^
* علّمتني مكتبتي أنني مُسرفةً جداً في شراء الكُتب , وأن مزاجي المُتقلّب , دوما ما ينصب لي كميناً , حيث يستحثني على شراء عشرة كُتب في مجال واحد فأقرأ منها كتابيّن أو ثلاث ثم أتحوّل لمجالٍ آخر , وهلم جرااا
* علّمتني مكتبتي أن مزاجي الآن قضايا المرأة , بينما كان قبل عدة شهور السياسية الإسلامية , وفي بداية السنة الدراسية كان مزاجي دراسات حول الثقافة والهوية, وقبل سنتيّن تنمية الذات , ولكن المزاج الذي لا تخلو منه أيامي هو المزاج الأدبي والمزاج الأندلسي .
* علّمتني مكتبتي أن هناك كُتب لا أستطيع أن أضعها في المكتبة من شدّة حبي لها , فكلما وضعتها على الرف , أعدتها ثانية ً بجانب الأبجورة !
* علّمتني مكتبتي أن الكتاب الذي يُقرأ أغلى من الكتاب الذي لم يُقرأ بعد , ولكن كلاهُما أعزُّ على النفس ِ من النفس : )
* علّمتني مكتبتي أن قراءة الكُتب المتوافرة فيها أجدى من زيارة المكتبات ودخول في صراع مع الذات ودوّامة { أشتري أم لا أشتري ! }
* علّمتني مكتبتي أن الكتاب الذي أحبّه بشدة , لابد أن أتحدّث عنه لمدة شهر أو يزيد , وأن أكتب عنه مقالاً , أو أن أشتريه لمن أحب
* علّمتني مكتبتي بأنه لا جدوى من تصنيف محتوياتها مادمت سأغيّر التصنيف كل أسبوع
* علّمتني مكتبتي أن من يُهدي لي كتاباً فهو يُحبّ لي الخير
* علّمتني مكتبتي أن أكف عن شراء الكُتب التي تعجبني أغلفتها التاريخية !
فكم من مرةٍ خدعتني صورة الغلاف
* علّمتني مكتبتي بأن أهم أفكاري التي تشكّل حياتي , اكتسبتها من الكُتب .
* علّمتني مكتبتي بأن الذي لا يقرأ كالذي لا يتنفس , عقله محدود , وأفقه ضيّق , إذا تحدّث لا يكادُ يُبين , وإن ناقش لا يكادُ يَفـقـَه !
* علّمتني مكتبتي بأن الحياة َ مكتبة , وفي قلبِ كلٍ منا كتاب , هذا كتابُه شعرا , وهذا كتابُه نثرا , وهذا كتابُهُ فكرا , وذاكَ كتابُهُ قصّة , وغيّرهُ كتابه فارغ!
وما عليّنا إلا أن نقرأ كُتبَ الآخرين وقلوبهم , حتى نستطيع القول بأننا نُجيد القراءة
: )
.
.
ما انتهت تأملاتي إلا وإذ بي أسمعُ صوتاً تشوبهُ ضحكة ٌ ساخرة يقول :
يا إيلاف , ألم أقل بأني لكِ ناصحةٌ أمينة , فزجرتني ونهرتني ؟
فقلت : أعوذ ُ بربِ الناس , من خنّاس ٍ وسواس, نقـَلَ حب التهكّم والسخرية إلى الجمادِ من الناس !