إنهم يضربون الجذور في هذه الأرض!
بعد سنتين من التحاقي بالوظيفة اضطررت
لزيارة قسم " الرمز " الواقع بنفس المبنى والطابق, اضطررت للسير في
الممر الطويل خارج الادارة القانونية, كان الامر أشبه بالسير في قصرٍ متواضع ولكنه
بعشرات الغُرف, بعد عدة خطوات كان الممر يتحول تدريجيا إلى ممرٍ طويل في سجنٍ
موحش, صدرت موسيقى مخيفة وحزينة كتلك في أفلام الرُعب وتطايرت الخفافيش من فوقي,
شعرت بالهلع, نظرت للحجرات على يمين ويسار الممر, كُل حجرة\ مكتب\زنزانة, كانت مزيّنة
ومرتبة على ذوق صاحبها.
كانوا يفرشون السجاد لإخفاء ارضيات الباركيه
الرخيص باللون البرتقالي والذوق السيء, كانوا يعلقون اللوحات لعلها تكون نافذة
بدلا من اختناق الغرفة بالجدران, كانت الفراشات الزهرية والعصافير على شكل لواصق
بلاستيكية ترفرف بجانب اجهزة الكمبيوتر بينما تثرثر الموظفات وهن بكامل الزينة
والأناقة والوهج, صور أطفالهن امامهن على المكاتب كتقليدٍ متوارث يمارس في كل
الوزارات والوظائف, كان الجميع يعلّق بطاقة العمل على ثيابه بشكلٍ بارز امتثالا
لتعليمات الوزارة, في المكاتب الأكبر والأكثر أناقة يتحدّث الموظفون " الأهم
" عن مواضيع " أهم " كما يصوّر لهم, كان جميع هنا ينتمون للمكان,
يريدون أن ينتمون, كانت لهم جذور, كانوا يضربون جذورهم في هذه الأرض المخيفة.
اضطربت, انهيت المهمة وعدت للممر, للممر
الطويل خارج الإدارة القانونية, بعيدا عن زنزانتي الاختيارية, ومن الترف الذي أحسد
عليه أن يحصل الانسان على زنزانة "انفرادية اختيارية" , تسلب الحرية
ولكنها تعطي الكثر من العزلة والكثير من المال, حين جئتها بقدميّ لم أحمل معي الكثير من
الأشياء لم أرد أن تشبهني أو أشبهها بشيء, كل ما جئت به صورة لماري منيب بطلة
الكوميديا المصرية بالأبيض والأسود وهي تنظر لي وتبتسم بسخريتها المعهودة, نصبتها على
يمين المكتب, وصورة اخرى لفيروز الصغيرة وأنور وجدي في فيلم دهب جعلت منها قاعدة
لفأرة الكمبيوتر.
اشفق عليّ أحد المراسلين وزوّدني بعدة مكتب
زهرية, بلاستيكية, شفافة لحمل الأقلام والدبابيس بعدما كانت متناثرة على سطحه,
اظنها من مخلفات احدى الموظفات اللاتي كانت لهن جذورا هنا ذات يوم!
دخلت, اغلقت الباب ورائي كما أفعل دوما,
المكتبة الفارغة الا من عدة وريّقات رسمية كنت قد وضعتها امام النافذة الزجاجية
الطويلة المطلّة على الممر لزيادة العزلة والخصوصية والانفصال عن الواقع, دخلت
وأغلقت الباب, خلعت حذائي, لامست قدمي ارضية الباركيه باللون البرتقالي والذوق الرديء,
لم أكن شجرة , لم تكن لي جذور, لم انغرس, كنت غصنًا قد كُسر, خُلع من شجرته وألقيّ
في هذه الزنزانة.