الجمعة، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٨

في ضيافة ميكي !



العجلة تدور, رحلة ٌ استغرقت نصف ساعة من العاصمة باريس في طريقٍ جميل تستلقي على دفتيه مساحاتٌ خضراءٌ شاسعة, الجو معتدل مع القليل من النُسيّمات الباردةِ المُنعشة, العينُ تبصرُ من النافذةِ وتتأمل, والفكرُ يجول في أرجاءٍ شتى..من بعيد لاحَ لي طيفُ القصر, باعثـًا في نفسي روحَ الطفولةِ وبعضًا من ذكرياتها, قبل ثلاثِ عشرة سنة زرت المكان, ولكن لا أكاد أتذكر منه شيء ! إلا بعض الصور التي التقطتها هنا وهناك, وبعض الألعاب التي ابتعتها منه وبقيت في عهدتي بضع سنين ..ديزني لاند كما يطلقون عليها, أو عالم ديزني, ليست المسميات ضرورية إلى هذه الدرجة إلا أنني أفضّل تعريب كل شيء!


في صِغري كُنت أظن عالم ديزني يقتصر على تلك الأفلام التي أشاهدها باستمرار, استلقي تحت التلفاز بنشوة, أدخل الشريط في فم الفيديو, أضغط الزر, وتبدأ الرحلة, أعيد الكرّة وأشاهد الفلم في اليوم أكثر من مرّة !

في كلِ عام فلمٌ جديد ما إن يغزو الأسواق حتى أهرع لشرائه, أشاهده وأتعلق بقصته, اشتري حقيبة المدرسة وأدواتها حسب شخصياته, أبتاع كذلك بعضَ الألعاب والثياب التي تحمل رسوماته, بسذاجةِ الأطفالِ وبراءتهم كنت أعشق كل ما ينتجه ديزني ..


لا أذكر أيُ المشاعر كانت تخالجني عندما زرت هذا العالم قبل سنين, ولكن أكاد أجزم بأنني كنت أحلق فرحًا كبقية الأطفال الذين أراهم حولي اليوم, تكاد خطواتهم تفرُ من أرجلهم وتسبقهم لتطأ المدينة ..كيف لا وهم يستعدون لتوديع عالمَ الحقيقةِ والولوج في عالمِ الخيالِ والألوانِ والفرح, كل شيءٍ هنا مُعدٌ للاحتفال والانتقال !في واجهة المدينة يستقبلُك القصر الوردي الجميل, تمامًا مثل ذلك الذي في الرسومِ المُتحركة, الناسُ حولك يدخلون أفواجًا مبتسمين متهللين, والموظفون يرتدون ثيابًا غريبة, لا ليست غريبة جدًا, ولكنها مطابقة لما نراه في أفلام ديزني, ثيابٌ بألوانٍ زاهية, وتصاميمٍ رائعة تجعلهم يشبهون شخصياتها, بل تظنهم خرجوا للتو من شاشات السينما والتلفاز وجاءوا لخدمتك هنا !
المباني حولك فريدة من نوعها, متناسقة ُ الألوان والأشكال, لا تشبه عالمنا في شيء, الورود في كل مكان, والضحكات تملأ الهواء, الفرح يعانقُ أي شيءٍ تقع عليه عيناك, لا تستطيع أن تخفي انبهارك خصوصًا إن كانت هذه زيارتك الأولى, فأنت هنا تجدُ أحلامك الطفولية, تجدُ سفينة القرصان راسية برايتها الممزقة, وتجد عالم بيتر بان السحري, منزل الأقزام, عربة السندريلا, قصر الأميرة, خيمة بوكاهانتس, والكثير الكثير من الأحلام والأماكن التي كنت تسبح في مداراتها عندما كنت صغيرا !


والأمر الأهم من ذلك كله هو أنك تعيش الآن في قلب القصة, أنت البطل, تركبُ اللعبة فتطير مثل الولد الشقي وتعتلي ظهر السفينة فتبحر مثل القرصان, تصعد على البساط فتحلق مثل علاء الدين, تركب العربة تتحول إلى سندريلا, تدخل القلعة فتجلس مكان الأميرة, ولكن ليكتمل الدور عليك أن تشتري ثياب الشخصية التي تريد تجسيدها, فأينما تولي وجهك ثـَمَّ محلٌ أو متجر يبيعُ لك فستان بيضاء الثلج, وثوب بيل, وزي باز, وقناع القرصان, وملابس بيتر, ورداء مولان, إن كُنت طفلا فأنت محظوظٌ جدًا ستجد قياسك, وإن كنت رجلاً أو امرأة فلا تخف, هناك القبعة وهناك السيف وهناك العصا السحرية, هناك الكوب أيضًا والدفتر والقلم والقميص والحذاء وعِلاقة المفاتيح والأواني والقلادات وأيُ شيءٍ تود شراءه يحمل صورة شخصيتك المفضلة , ستجده هنا لديهم, لا تتعب نفسك ولا تمشي كثيرًا, أينما وقفت تستطيع الشراء !

شخصيتك التي سكنت بداخلك مُذ كنت طفلاً , الآن المجال مُتاحٌ لك لتجسيدها في هذا العالم المًصطنع والمُقتطع من الخيال ..
لا تستطيع أن تمنع نفسك أو تتوقف, ستشتري قبعة – بطوط – يااه بطوط ألم تكن تدمن قصصه في مجلة ميكي؟ وماذا عن ميكي أيضًا , ستشتري قفازاته و تاجٌ يحمل أذنيه, ميكي ذلك الفأر الشقي الذي تعلقت بمواقفه الطريفة وقصصه الممتعة, وأيضًا العم ذهب, البخيل الذي كنت تمقت بُخله ولكن الآن أنت تحبه, تحبه جدًا لا بد أن تشتري تذكارًا على شكله, وستلتفت, سترى هناك في واجهة المحل صديقك بندق أو الأسد سمبا أو طرزان أو ألس أو الكلاب المُرقطة, كل تلك الشخصيات لها في وجدانك مكان وفي ذاكرتك مساحة, لابد أن ترضي رغبتك الملحة وتشتري وتشري وتشتري ..
انتظر, الاحتفال سيبدأ بعد قليل, ستختفي الشمس وتطفئ الأنوار ويخرج الملك ميكي من قلعته, ستنبهر بالأضواء التي تبرق على ملابسه وعربته الجميلة, وجهه البلاستيكي الكبير يحملُ ابتسامةً كبيرة , ولكني كُنت أراها خبيثة, كان الكل حولي يصوّره, ويبادله التحية ..ستتبعه الشخصيات المحببة إلى قلبك, كلهم سيرقصون ويتمايلون ويصفقون على أنغام موسيقى ديزني التي تعشقها ..
إنهم يحتفلون بمرور خمسة عشر عام على افتتاح مدينتهم في فرنسا, وبعد أن يخبو نور استعراضهم, لا تغمض عينك, افتحها بشدة وانظر للسماء, عرضٌ ساحر ورقصاتٌ نارية على صدر الأفق..هنا, في هذا المكان لا يتركونك تخرج إلا وقد أسروا جوارحك وفتحوا فمك دهشة ً!
الآن فقط أدركت اتساع عالم ديزني, فهو لا يقتصر على شريط فيديو يشتريه لي والدي فأعود للمنزلِ وكأنني أملك الدنيا وما فيها, ولا يقتصر على حقيبة مدرسية وبعض الأقلام والدفاتر, هو عالمٌ يولدُ في حواسِنا صغارًا, ويظل يكبر معنا, عالمٌ يغزوا أفكارنا ويخلخل ثقافتنا, يستغل أطفالنا ويشكلّهم كما يريد, يجعل منهم هدفـًا سهل الاصطياد, ومادة ً لاستهلاكِ منتجاته, فيظل اطفالنا يستهلكونها ويشترونها حتى لو أصبحوا كبارًا, يحبونها ويعشقونها, كنت أرى الناس في مختلف الأعمار يتهافتون على المتاجر ويشترون, كان الشباب والعجائز يرتدون قبعات بطوط وميكي والقراصنة وبيتر بان والزنوج, كما كان الأطفال يرتدون ثياب الشخصيات المختلفة, كل من كان داخل المدينة عبّر عن نفسه, وارتدى زي شخصيته التي يرى فيها حلمه الطفولي .. أيًا كان السعر لا يهم, فما يشترونه يحملُ رمزهم الخاص ويعبر عن احلامهم, والغريب أنني كنت أدرك تلك الأمور ولكنني اشتريت بكثرة ! كما استمتعت بكل جوارحي وحواسي في داخل العالم, عالم ديزني ..
إذًا فقد نجحوا, رَبوّك صغيرًا على يدِ أفلامهم, وغرسوا فيكَ عشقَ شخصياتهم وأسروكَ في عالمهم الرائع, ابتلعت الطُعم وتلذذت فيه ! يالكَ من ضحيةٍ مسكينة, أنا وأنت كبرنا الآن ولكن مايهمني هو صغارنا وأطفالنا الذين مازالوا في طوّر التنشئة, لماذا نقدم لهم على طبقٍ من الألوانِ والقصص المسلية أفكارًا لا تناسب ديننا ولا ثقافتنا, لماذا ندع الفتاة الصغيرة تدمن مثل هذه الأفلام فلا ترى نفسها سوى أميرة ً تُدَبّرُ حولها المكائد فينقذها أميرها وتفوز بقبلةٍ منه في نهاية الحكاية !والفتى على أنه الأمير الوسيم الذي لا هم له سوى البحث عن فتاته الفاتنة !أو ذلك الشرير الذي يطمع في أخذ المُلك والجلوس على العرش أو العثور على الكنز, ولا تنسى أيضًا الرقصات التي تمتلئ بها أفلامهم التي يدعون بأنها للصغار, والملابس التي لا تليق بثقافتنا وموروثنا الديني, والمشاهد الحميمة, تأمل معي في تلك القصص التي كنا نعشقها صغارًا, لن تجد فيها إلا صراعًا على الملكِ أو على فتاةٍ جميلة, في كل قصةٍ هناك حبٌ وعلاقة, وهناك حقدٌ وشرٌ وصراع ..
أليس من الأجدر بنا أن نعتني بتراثنا ونقدم لأطفالنا ثقافتنا وديننا وشخصياتنا الرائعة, فتتمنى صغيراتنا بأن يكُنّ عائشة وفاطمة وخديجة, بدلاً من أن يكُن سندريلا وألس وبيل ؟
الفرق شاسع بين شخصياتنا وشخصياتهم من حيث المضمون, نفوقهم عظمة ً وقيمة ً وشرف , ولكنهم للأسف, قد فاقتنا شخصياتهم تألقـًا وبريقا !!
إنه أملٌ يداعب مخيلتي, عالمٌ كعالم ديزني, يخترع لأطفالنا شخصيات تلائم ثقافتنا وديننا, أو يحيي شخصياتنا ويقدمها لهم بطريقة مُبهرة, تفوق طريقة ديزني..
وهناك بوادر أمل مثا صديقتنا العزيزة فلة , ومجموعة 99
وأملٌ آخر, بأن نتخلص نحن من ثقافتهم التي بذروها فينا, ليست ثقافة ديزني فقط, ولكنها ثقافات كثيرة لا يتسع المقالُ لذكرها ..

هناك ٧ تعليقات:

~ شَــهْـــرزاد ~ يقول...

تعرفين تماماًرأيي بمقالكِ الوارف هذا
فقد كُنا على اتصال مُباشر أثناء ما كُنتِ تكتبينه في قلب مدينة النور ؛*



لكِ من أكاليل قصر فرساي ؛*



وشوشة أخيرة:
القالب التصيمي الأزرق الذي يحتضنُ أهازيجكِ لا يتوائم البتّه البتّه مع شخصيتكِ ؛*


فهلاّ .. اهرعي لتغييره ؛)

~ شَــهْـــرزاد ~ يقول...

ألفا ..

ننتظر مواضيعا جديدة, يا جميله
؛*

إيلاف يقول...

قريبا ياجميلة ;)

والأرق , أظنه هادئ كمزاجي في الفترة الحالية

سأغيره متى ما تحسنت الظروف , هه أي ظروف ؟ لا أدري !

Barrak يقول...

ابي اروح هناك

Kuw_Son يقول...

لطالما أحببت شخصيات ديزني ..
والأمر كما ذكرته في حديثك عن الثقافة التي يؤيدون غرسها في قلوب الأطفال .. علاقات حميمة .. خير و شر .. صراع على العرش و الكنز و الجمال !
تفاهة في تفاهة ! لكن ما جعلهم يفوقوننا هو ضعفنا في هذا المجال .. لو أننا سيطرنا على آلة الإعلام و السينما .. أكن سنذهب لديزني لاند !؟ لا أظن !

إيلاف يقول...

برّاك ,,

ندعو لك بتحقق تلك الأمنية


إبن الكويت ,,

وأنا لا أظن ذلك أيضًا , آمل أن نفوقهم في يوم ٍ ما !

Hadeel يقول...

أأيد في كل كلمة خطتها أنملاتكِ

نحن من استسلم لهم واسلم أطفالنا كذلك

رأت احدى الأمهات تعلق ابنها الطفل بشخصية (سبايدر مان)
لم تمنعه .. لم تقبح سلوكياته الجنونية
إنما اقتنت له قصص للأطفال عن الصحابي الجليل والبطل الفذ خالد بن الوليد

وكذلك أناشيد اسلامية وأصبحت توصله الى باب المدرسة على الصيحات والتكبيرات وأسماء الأبطال (لا أذكر اسم الألبوم)
ما لبث الطفل أيام حتى اشترى سيف وعقد قميصه على رقبته وصار يتقافز وهو يلعب مرداً (أنا خالد بن الوليد)!!!!

لا أستغرب ذلك من أم نزعت من قلبنا شغفنا ببطل دزني (هيركوليز) زاستبدلته بأبطال الاسلام