الأحد، ٢١ يونيو ٢٠٠٩

كذبوا علينا في المدرسة !


أذكرها , أذكرها جيداً , مدرّسة العلوم النحيلة , بجسدها الطويل وردائها الرماديّ الفضفاض , توكئ على أرنبة أنفها نظارةً مستديرةً سميكة , وتتكلم بلهجةٍ شامية , بكل صرامة تطلق الأحكام , تملي علينا القوانين العلمية , وتصدر الأوامر بالانتباه والكتابة , وأذكر الدرس , أذكره جيداً , ذاك الذي علمونا إياه في بدايات المرحلةِ الابتدائية , حين كذبوا علينا وقالوا بأن الموجودات في هذا الكون تنقسم إلى جمادات وكائناتٍ حيّة , وصنّفوا على أهوائهم الموجودات , وضعوا لنا الصور , وجعلونا نؤمن بأن هناك جمادات وكائنات حية ..

تنتصبُ في وسطِ الفصل كنخلةٍ سامقة
بكل ثقةٍ واعتداد كانت تشير إلى الكرسي وتقول :
الكرسي جماد , الصبورة جماد , النافذة جماد , والإنسان كائنٌ حي

وكنا نصدق مبهورين , في أعيننا دهشة ٌ شاسعة , وقلوبنا الغضة تتلقف ببراءةٍ كل ما يملى عليها , دون أن نعترض , نفكر , أو نناقش

وتواترت المراحل الدراسية , وكلنا في قرارة عقله يُسلّم بأن الكرسي جماد , والإنسان كائنٌ حي !

معلّمتي الفاضلة , ها أنا قد تخرّجت من فصول المدرسة , وأقف الآن على العتبات الأخيرة في سُلم الجامعة , واليوم , اليوم فقط اكتشفت بأنكِ كذبتي علينا , بينما أنتِ وقريناتكِ لم تفتأن تملين هذه المعلومة المغلوطة على الأطفال الأبرياء أمثالي , الجالسين على مقاعد الدراسة , فيصدقون ..

رحماكِ رحماك , تريّثي وتأملي قليلا ..

معلمتي العزيزة
ليس كلُ إنسانٍ كائنٌ حي , وليس كل كرسي ٍ جماد !

إن الحياة ليست مجرد أنفاس ونبضات وبضع قطيّراتٍ من دماء , والجمود ليس انعدام القدرة على الحركة والكلام والنمو

فكم من إنسانٍ لا يمتُ للحياةِ بوشيجة , بل كل ذرةٍ فيه تومئ بالجمود , قلبه لا ينبضُ حبا , دمه لا يسري في جسده خيرا , وزفيرهُ لا يخرج للحياةِ نورا
إن نطقَ صمت الحياةُ آذانها , إن قام هربت منه خوفا , وإن نمى تعوذت بالله من نموه !
يكتمُ روحهُ في زجاجةٍ سوداءَ مظلمة , وينزوي بشرهِ وآثامه
فالحياة منه براء , والجمود له أقرب ..

وكم من كرسي ٍ يحفظُ ود من جلس فوقه , يشتاقُ لعودته , يحفظُ سره ومناجاته , ويحفرُ على ألواحهِ ذكراه .
يشرّع ساعديّه بكل أريحيةٍ لاحتضان الضيف الجديد , يغدق عليه بحنانه , ويريحه بلينه , ويحنو عليه ..

أتظنين بأن الكراسي تنسى الجالسين فوقها كما ينسى البشرُ العابرين في حياتهم ؟

: )

ألا تعتقدين بأن كرسيكِ في الفصل الدراسي يشتاقُ لكِ , وذاك الذي جلستِ عليه بقرب البحر مازال ينتظر مجيئك ؟
أتذكرين الذي حفرتي عليه تاريخ يومٍ ما , أم الآخر في منتصف الطريق ..
والمسكين الذي رميتهِ بعدما كُسرت أحدى أرجله , أتظنين بأنه لا يشتاق لمنزله , كما نشتاق نحن لمنازلنا عندما نغادرها ..

معلمتي الوقورة
ليتكِ تتحرين الحقيقة قبل تكرار المنهج كالببغاوات , ليتكِ تتفكرين
اعذريني
لم أعد أصدق بأن الموجودات في الكون عبارة عن جمادات وكائنات حية , ولم أعد أصدق بأن كل البشر كائنات حية لمجرد أنهم بشر
ليتني أعود للمرحلة الابتدائية لأكتب في الاختبار أن المرآةَ كائنٌ حيٌ يحدثني في كل صباح , وكرسيي كائنٌ حي يشتاق إلي كلما خرجت , وفساتيني كائنات حية تنبضُ بإحساسي , وكتبي كائناتٌ حيّة تشرح لي الحياة ..
وأن فلان وفلانه وغيرهم , جمادات !!



هناك ١٢ تعليقًا:

نمووول يقول...

ابدعتي والله
جذبني العنوان وبدأت القرآئة احترت في امر المدرسة, حتى انتهيت من القرآئة ومازلت بحيرة.

قد يكون هذا بسبب قصر نظري, فلا امتلك مثل نظرتك الجميلة للعالم والموجودات.

اعتقدت ان موضوعك كان عبارة عن نظرة خيالية للموجودات, لكن بعد تفكير قليل اقتنعت ان ما قلته ليس خيال بل واقع جميل اخطأنا به كما اخطأت المدرسة, ونسيت الكرسي الذي حملني كثيراً ولم يطلب مقابل.


لكن ماذا اقول فقد اشتق اسم الانسان من النسيان.

موضوع غاية في الروعة والجمال ..

احسنتي ..
وجزاك الله خيراً ..

** برحمتك لا بعملي ** يقول...

موضوع مميز
دام بوح قلمكِ ^^

غير معرف يقول...

رائعه الصياغه جدا ...

رغم نظرة المقال التأملية ...

أود أن أطرح نقطه هي في صالح المعلمه ربما ...

هناك فرق بين المعنويات والماديات
فهي صدقت من الجانب الفيزيائي ...

الإنسان ماديا\فيزيائيا كائن حي ... العكس للكرسي ...


أما من الجانب الروحاني او المعنوي
يكون الإنسان اما كائن حي او جماد

لم تكذب المعلمه ... لكنها ربما لم تحسن الشرح

Hadeel يقول...

يالله
كم أتلذذ بالقراءة لكِ؟
كم أستمتع وأستنير بنظرتكِ ورؤيتكِ للامور؟
بورك قلم أنتِ تحملينه

لكن ..
لي تعقيب بسيط جدا على موضوع كذب المعلمة..
نظرتكِ معنوية وحسية
نظرتها أو علمها مادي بحت
أرى أن المعلم لا يكذب أبدا في علمه لأنه ان فعل سيكون تزييف وسيصبح هو أي شي إلا أن يكون معلما.. ^^

غير معرف يقول...

هناك اشياء كثيرة تنبض حولنا بالحياة

(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ )

اذا السماء تبكى و الارض كذلك ..

الم يحن الجذع للحبيب صل الله عليه و سلم ؟
اذا الجذع يبكى ايضا


نحن حقاً فى عالم ينبض جميعه بالحياة


بوركتِ اخيه

noor يقول...

فلسفة جميلة :))

موضوع جميييل ايلاف
موفقه :)

إيلاف يقول...

أخي الكريم نمول :

شكراً لك على إطرائك , ولابد أن ننظر للأمور دوماً من عدة زوايا : ) فالحياة ليست واحدة , بل تتعدد بتعدد نظراتنا لها ..

.
.

سياسية :
وحضوركِ مميز : ) دمتِ حاضرة


.
.

4 :
كنت أتوقع هذا الرد من بعض القرّاء
^_^

مايؤرقني ياعزيزتي , أنني أقيس الأمور دائماً من الجانب الروحاني أو المعنوي

والمقال احتوى هذا الجانب : )

دومتِ بود عزيزتي , ولا حرمنا الله إطلالاتكِ الجميلة

.
.


هي أنا :
نأمل أن المعلم لا يكذب أبداً , ربما كنتُ قاسية على المعلمة بعض الشيء , ولكن كما قلت أعلاه , نظرتي هنا معنوية وليست مادية : )

يسعدني رأيكِ دائماً , حفظكِ الله عزيزتي

.
.


أخي أحمد عمر :
إضافتك جعلتني أتأمل أكثر ..
شكراً , شكراً لك على الأفق الشاسع الذي أوجدته هنا

.
.

نور :
وأنتِ كذلك جميلة يا عزيزتي ^_^

iCoNzZz يقول...

تدوينة تقف على مربع الإحساس !
لا أملك سوى , سلم إحساسك ..

رذاذ المطر يقول...

اعذري معلمتك يا إيلاف
فهي تحفظ وتقدم المعلومة كما حفظت لا كما شعرت بها ، صدقت في قولك بأن كثيرون
من البشر هم جمادات لا يشعرون بشيء

بارك الله فيك ووفقك

ღ heart ღ يقول...

[إن الحياة ليست مجرد أنفاس ونبضات وبضع قطيّراتٍ من دماء , والجمود ليس انعدام القدرة على الحركة والكلام والنمو ]

..


اشكرك على هذه التدوينة القيمة ,,

واهنئك على فكرك النيّر ..

اسلوبك مميز وجآذب للقراءة ..

شكرا لك

إيلاف يقول...

آيكونز العزيزة ..
: ) سلم قلبُكِ الزهري ..

.
.

خولة ..
لكِ دوماً حضورٌ ماتع
دمتي بهذا الود : )

.
.

الزهرة البيضاء :
أشكركِ على القراة , والزيارة , والإطراء

أشراقة الأمل يقول...

موضوع راائع بارك الله فيك
أختك مرافئ